الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة فيلم "آخر واحد فينا" لعلاء الدين سليم: من أقاصي العدم الى أقاصي الكونية...

نشر في  07 نوفمبر 2016  (16:23)

هو فيلم مخاتل، فيلم يغالط فيه المخرج علاء الدين سليم المتفرج ليضعه أمام سيناريو غير كلاسيكي بالمرة بل لنقل أمام قصة غريبة الأطوار لشاب من جنوب الصحراء (جوهر السوداني) يهاجر بطريقة غير شرعية ساعيا الى الالتحاق بشمال افريقيا ومنه الى أوروبا غير أن مسيرته تأخذ أبعادا أخرى عندما يسقط في فخ نصبه أحد سكان الغاب (فتحي العكاري)، فيُصاب بجرح بليغ في ساقه ويدخل حينها في منعرج خاص من نوعه يتماهى فيه مع عناصر الطبيعة الى حد الذوبان.

 يقترح المخرج في فيلم "آخر واحد فينا" رحلة حسيّة بصرية لكائن بشري منزوع من كل شيء ما عدا رغبته واصراره على الالتحاق بـ"عالم آخر" قد يكون مسكونا بشيء من العدالة. تنطلق الرحلة من أقاصي العدم لتحط رحالها في أقاصي الكونية. وبين هذا وذاك يُعبّر المخرج عن نظرة مغايرة للعالم، نظرة متخلصة من طغيان الماديات وحيف القوانين التي تحد من حرية الأفراد وحتى من القوانين الكونية التي تنظم علاقتنا بالطبيعة.

يتغلب اذن في فيلم "آخر واحد فينا" الفضاء الواسع الحر على الحدود المميتة والمرافئ المهينة ونقاط التفتيش وحواجز الاستخلاص المقيتة التي يبدو أنّ علاء الدين سليم لم يبرزها في فيلمه إلا لـ"قتلها" سينمائيا، وهي التي تسببت في التفرقة بين البشر وعزلهم عن بعضهم البعض. يتخلص منها في رمزية فائقة لينطلق نحو الطبيعة الحرة والوعرة في آن واحد ويتخذ منها إطارا لشخصيات فيلمه. فيرسم بأدوات الطبيعة وعناصرها ملامح الوحدة، يحاكي الإصرار في حضرة الضياع، يستمع الى موسيقى الرياح وتساقط الامطار ويدعو للإنبهار امام بساطة الأشياء مقتفيا أثر مصالحة ممكنة بين الطبيعة والانسان.

ومن المشاهد اللافتة في فيلم "آخر واحد فينا" تلك التي يظهر فيها القمر متحركا ومنيرا سبيل الشخصية الرئيسية (جوهر السوداني) بطريقة عجائبية، "القمر في فيلمي أصبح صديقا للإنسان" هكذا تحدث علاء الدين سليم في الندوة الصحفية التي تلت عرض فيلمه خلال الدورة 27 لأيام قرطاج السينمائية. أو ذلك المشهد الذي ينصهر فيه البطل في الطبيعة وكأنّ الشيء بإمكانه أن يصبح كل شيء أو على العكس تماما أنّ كل شيء ذاهب الى زوال.

ولأن الفيلم ينشُد ذوبانا يجمع بين الصمت والوحدة والطبيعة، فقد تماهت شخصياته مع إطارها الطبيعي، وهو فضاء صامت بالأساس، وتربعت على المشهد السينمائي لغة العيون والجسد ووجيعة الجسد، وهو اختيار تحمل المخرج تبعاته باقتدار. لا بل شكلّ غياب الكلمة والحوار عنصرا دعّم فكرة العزلة التي تعيش على وقعها الشخصية الرئيسية للفيلم، عزلة من يختار أن يسلك طريقه بمفرده، كالخيال، غير عابئ بضجيج العالم وبصدى خرابه.

"تقيأت الجنس البشري.. وانجذبت الى غاب الطبيعة.. وأبحرت في تجربة النور"، هذا بعض ما جاء على شاشة سوداء تخللت الفيلم لتعبر عن حجم القطيعة التي جدت بين "نون" بطل الفيلم والآخرين، أولئك الذين لم يعد فيهم أمل ولا امكانية حقيقة للتغيير. صمت. سبورة سوداء وايحاءات. قد يكون الصمت والوحدة والمشي في ثنايا العزلة أفضل بكثير من عبثية العالم وناسه. أما القوانين التي تتربص بـ"المهاجرين غير الشرعيين" مثلما يسمونهم في مراكز الأمن والمحاكم والصحف، وبمن "يجتازون الحدود خلسة" فيدوسها المخرج في فيلمه دوسا قائلا: "لا تسموهم بالمهاجرين غير الشرعيين، فهم أناس أحرار".

في تمش مخاتل، يتحدى المخرج الجدران والمواثيق والعقليات التي تحد من حرية البشر ليذهب ببطله الى عالم آخر، عالم لم يتصوره واضعو هذه القوانين السخيفة، يذهب به بفضل مخياله السينمائي، الى فضاء الطبيعة الأرحب والأوسع، ذاك الذي تتداخل فيه عناصر أكثر قوة وضراوة من سلطة الانسان ونزعته الى السيطرة والتحكم في الآخرين. هكذا كان مصير "آخر واحد فينا" كما رآه المخرج، مصير متحرر متخلص من عبثية العالم ومنطلق نحو الأزل. خيال الى الأبد.   

*حاز "آخر واحد فينا"، وهو العمل الروائي الطويل الأول لعلاء الدين سليم، التانيت الذهبي لأفضل عمل أول في مسابقة الدورة 27 لأيام قرطاج السينمائية فضلا عن جائزتي "أسد المستقبل" وأفضل اضافة تقنية بمهرجان "موسترا دي فينيز" في دورته الأخيرة.

شيراز بن مراد